قرية صغيرة ، سكانها بسطاء ، بل أقل من البسطاء وزينتها الأطفال الذين لا يفارقون شوارعها المغبرة وقودهم الفرحة ، والأمل الذي يكاد يظهر في عيونهم البريئة ، أمل في مستقبل أفضل ، في حياة أفضل ، أمل لم تتح له الفرصة بعد أن يظهر ، فيظلون يحلمون به ، كهولها من السكان يطمحون لأخذ قسطٍ من الراحة قبل أن يحين موعدهم للقاء ربهم ، راحة من تلك الحياة التي عاشوها بحلوها ومرها ، بل مرها أكبر ، تركوا فلذات أكبادهم ليكملوا خلفهم الطريق ثم استسلموا للحياة التي تركت على محياهم معالمها ، فترى عمراَ كاملاَ من لحظات الفرح والحزن والأسى في عينيهم ينتظر أن يخرج من تلك النفس التي ذاقت ما ذاقت .
لم يكن في تلك القرية من الشباب إلا القليل فكلهم سافروا بعيداَ عن بساطة قريتهم إلى عالمٍ يكادُ فيه التطور أن يمحو التراث الجميل وتكاد فيه الآلة أن تحل محلَ صانعها ، ذهبوا إلى هناك لينهلوا من الدنيا ما شاء الله لهم ، ليضمنوا مستقبلهم ومستقبل من بعدهم ، في محاولة للتأثير ولو بشكل بسيط على العالم وأن يتركوا بصمتهم فيه ويحفروا أثرهم .
ولدْتُ في تلك القرية ، دون أن أعي أين أنا ومن أكون وما العالم من حولي !! وتربيت فيها وعشتُ طفولتي بين زواياها وأزقتها وعشتُ سنون طفولتي فيها بفرحة ، لكن لم تكتمل تلك الفرحة ، عشتُ حتى قدم ذاك اليوم المشؤوم يوم تحطمت أحلامي .
أفقت على صوت أقوى من الرعد ولم استطع أن أميز مصدره أو ماهيته ، كان ذلك الصوت أقوى من أي صوتٍ سمعته في حياتي ، قمت مذعوراً من فراشي ولم أكن أبلغ من العمر آن ذاك أحد عشر ربيعاً ، تجمد الدم في عروقي حين تكرر ذلك الصوت ، لكنه كان أقوى وأشدُ رعباً من ذي قبل ، صرخت: أمي! أمي ! أبي ! لكن ما من مجيب ، لم أستطع سماعَ أي صوت غير صوت صراخ الناس في الخارج ، خرجت من غرفتي وإذا ببيتي تلتهمه النيران ، نظرت للأعلى فرأيت سواد الليل الحالك من سقف المنزل الذي لم يعد سقفاً ورأيت خيطاً من أشعة القمر التي غطاها الدخان ، ماذا يحدث ؟!
تجاوزت ركام منزلي المحترق ، دست على ذكريات حياتي حتى أنجو بها ، وصلت إلى مخرج المنزل ، فما خرجت إلا وذلك الصوت المزلزل يتكرر ، لكن هذه المرة عرفت مصدره ، رأيت منزل جارنا وقد تحول إلى كتلة هائلة من النار ، كانت أشلاء المنزل تتطاير في الهواء ثم تنزل كالمطر ، ولكن أي مطر !!! ، لقد أحببت جارنا ، فقد كان ينتظرنا كل صباح ليعطيني وأصدقائي بعضاً من الحلوى أين هو الآن ؟
تذكرت أمي وأبي اللذان لم أبحث عنهما في المنزل من عجلتي في الخروج ، نظرت خلفي لأجد منزلي المحترق ، لم يكن بوسعي الدخول فقد كان المنزل قد تحول الى كتلة من رمادٍ محترق مجبولٍ بذكريات الماضي وأحلام لم تتحقق .
نظرت إلى الشارع فوجدت حشوداً كبيرةً من الوجوه المغطاة بالرماد تحاول الهروب لكن إلى أين يهربون؟ وأثناء ذلك سمعت صوتاً يصرخ : إنهم قادمون ! نظرت حولي فلم أجدُ ما يزعم ، من هم ؟ نظرت إلى السماء مرة أخرى فوجدت طيوراً كبيرة ، لا ، إنها ليست بطيور إنها أشبه بصقور ضخمة ، أو بطير عقاب ، بدأت تلك الطيور بإطلاق كراتٍ لامعة لونها الجميل أبهجني ، أزال قليلاً من الرعبة من قلبي ولكن ذاك الإحساس لم يطُل ، سقطت تلك الكرات على الأرض فأطلقت زئيراً مدوياً ودمار ، كل كرةٍ تلمس الأرض كانت تكنُس كل ما حولها من أشجارٍ وبيوت ، وأشخاصٍ لم يروا مثل هذا اليوم من قبل.
بدأت أركض ، ركضت بالإتجاه الذي يركض به الناس ، حاولت أن أميز معالم سكان قريتي ، لكن كانت كل الوجوه متشابهة ، وجوه قد غطاها الرماد ، مصحوبةٌ بالهلع ، بقيتُ أركض وأركض وإذا بالناس يعودون أدراجهم ، ماذا يفعلون ؟ إن الطيور القاتلة خلفنا ! لم أفهم ما كان يحصل ، وبينما أنا في حيرةٍ من أمري وإذا بيدٍ تمسك بقميصي وترفعني وتضعني على كتف صاحبها ، ماذا يحدث؟ من أنت ؟ نظرت إلى وجهه فكان كالبقية ، أتراه أبي ؟ نظرت خلفي محاولاً معرفة سبب عودتهم فوجدت آلات غريبة الشكل مخيفة تطلق كراتٍ لامعة مثل تلك الطيور التي فوقي ، لكنها كانت أسرع ، تاركةً خلفها بقايا من إنسان وأشلاء من أحلام سكان مسالمين ، من هؤلاء ؟ لماذا يقتلوننا ؟ ماذا فعلنا لهم ؟
لم تكن إلا لحظات حتى اخترقت عروق حاملي شيء غريب ، جعله ينزف دماً من صدره ، انهار على الأرض وقد ترك صرخة ألم مما أصابه ، ووقعت على التراب ، نظرت آليه فقال لي : أذهب ، انج بحياتك !! لم أكن أعلم ماذا أفعل ، تجمدت في مكاني لوهلة ثم تحركت بخوفٍ على صوته الذي صرخ هذه المرة قائلاً : إذهب ! .
بدأت بالركض مرةً أخرى ، لم أجرؤ على النظر خلفي ، فقد كان شكل تلك الآلات مخيفاً جداً . تجاوزت عدة جثث ملقاةٍ على الأرض في محاولة للنجاة بحياتي ، كما قال ذاك الغريب الذي ساعدني .
مازالت الكرات اللامعة المخيفة تنهالُ علينا ، يصاحبها ، ذاك الصوت المرعب الذي يغطي على أصوات الجموع المرتعبة كلما دوى ، قدماي لم تعودا تحملاني من الخوف ، أين أبي ؟ أين أمي ؟ أين أهل القرية؟ ما تلك الطيور المخيفة وما تلك الآلات الحديدية الفخمة ؟ وماذا يريدون منا ؟ وأثناء تساؤلاتي تلك عبرت الجسر الخشبي الذي كان على حدود القرية وسمعت احدهم يقول قولاً عن بلادي لم أفهمه إلا الآن ، لم أفهم ما مغزى وسبب صراخه هذا إلا بعد عشرٍ من السنين .
لقد كان يقول : ضاعت فلسطين ... ضاعت فلسطين